الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي
.تفسير الآية رقم (91): {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)}لم يأت الحق هنا بالأنصاب أو الأزلام؛ لأن المؤمنين لا يعتقدون فيها وانتهوا منا، والخطاب هنا موجه للمؤمنين.إذن لماذا قرن الحق التكليف بالنهي عن الخمر والميسر- من قبل- بالأنصاب والأزلام؟ قال سبحانه ذلك ليبشع لنا الأمر، فوضع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام، ولنفهم أن الحكم بالنهي عن الخمر والميسر جاء ليقرنهما بالأنصاب والأزلام، وما داموا مؤمنين فلابد أنهم قد انتهوا عن الأنصاب والأزلام.ويقول سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء}. والإرادة هي تخصيص الممكن ببعض ما يجوز عليه، وتتعلق الإرادة بمريد، فهل يقدر على إنقاذ ما يريد أم لا يقدر؟ إن كان يقدر على إنقاذ ما يريد، فالقدرة تكون من بعد الإرادة.وحينما يريد سبحانه وتعالى فالقدرة تبرز المراد، فقدرته لا تتخلف ولا مراده يتخلف؛ لأن كل شيء منفعل له سبحانه وتعالى، وتختلف المسألة عند الإنسان والشيطان، فالإنسان يريد، ولكن أله القدرة على إنفاذ ذلك؟ أحياناً تكون له بعض من القدرة على إنفاذ ما يريد، وأحياناً لا.والشيطان يريد، لكن أيقدر على إنفاذ ما يريد؟ إنه يقدر في حالة إطاعة الإنسان له. وهكذا تكون إرادة الشيطان، وهو يحب أن تحدث المعصية من الإنسان، ويتمنى الشيطان ذلك، ويخطط لذلك. لكن الفعل لا يأتي إلى الوجود إلا إذا وافق الإنسان على طاعة الشيطان.إذن فالإرادة إن كانت ممن يقدر على الإرغام والإبراز فهي تظهر العمل فوراً، والقادر المطلق هو الله، وهو يحكم ما يريد، ولذلك يأتي قوله الحق: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82].لكن خلقه حين يريدون فالأشياء لا تنفعل لهم انفعالها لخالقها؛ لأن إرادة المخلوقات تقتضي أن ينفذ الإنسان على قدر طاقته، وهي مهما زادت محدودة. وإرادة الشيطان تحتال على الإنسان حتى يفعل ما يتمناه، ولا يستطيع الشيطان أن يُكره الإنسان قهراً على فعل ما، ولكنه يزين له الفعل. فليس للشيطان سلطة الإكراه ليقهر الإنسان على فعل، وليس للشيطان قدرة على الإقناع أو الإتيان بأدلة تجعل الإنسان يفعل مراد الشيطان وهو راضٍ عن عمله. ولذلك يقول الشيطان في الآخرة للمذنبين: إن الذنب ذنبهم. {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي} [إبراهيم: 22].هكذا يعلن الشيطان أنه غير قادر على البشر، لا بالقهر ولا بالحجة، إنّه فقط زين لهم الأمر، فمن كانت له شهوة فالشيطان يزينها له فيرتكب الذنب. ويعلن الشيطان: {ما أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22].ويعترف الشيطان أنه مهما صرخ مستغيثاً- يوم القيامة- فلن يجد من يغيثه، وكذلك أصحاب الذنوب الذين اتبعوه سيصرخون ولن يجدوا من الشيطان عوناً ينجيهم من العذاب.و(أصرخ فلان فلانا) أي ذهب ليزيل صراخه وينجده.إذن فقول الحق: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء} يشرح لنا أن إرادة الشيطان هي إرادة تزيين، لا إرادة قدرة على القهر أو الإقناع. وإذا سمعت كلمة (يوقع)، فافهم أن هناك شيئين الأصل فيهما الالتحام، وهناك من يريد أن يجعل بينهما يفصل هذا الالتحام. ولذلك يقال: (فلان مشى بالوقعية) أي أنه أراد أن يصنع فجوة وشرخاً بين اثنين الأصل فيهما الالتحام.وكلمة (بينكم) تفيد الانفصال. وهذا الانفصال هو الذي توضع فيه الوقيعة. لماذا؟ لأن المؤمنين إخوة، ولأن المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، والشيطان يسعى بالخمر والميسر بأن يمشي بالوقيعة بين المؤمنين. ونجد مجالس الخمر فيها هذا؛ فالشاربون معاً كثيراً ما تقوم بينهم المعارك ويدور بينهم السباب. ولاعبو الميسر يأخذ بعضهم مال بعض، وهكذا يتحولون من وحدة كالبنيان إلى فرقة وتحدث بينهما العداوة والبغضاء.وما الفرق بين العداوة والبغضاء؟ العداوة هي انفصال متلاحمين حدثت بينهما عداوة وبغضاء. والبغضاء هي انفعال القلب بشيء مكروه.كأن البغضاء توجد في الصدور بعد حصول العدوان، فكأن العداوة تكون هي المنطقة الوسط التي باعدت بين هذين الشخصين بعد أن استسلما لنزغ الشيطان. وهذان الاثنان كان يجمعهما من قبل الصفاء والمودة والحب والأخوة الإيمانية.والعداوة في هذه الحالة تأخذ من مشاعر كل طرف؛ لأن العداوة إن كانت من طرف واحد فعمرها قصير، ولكنها تطول إن كانت بين طرفين. ولذلك تكون المعركة حامية بين عدوين يستشعر كل منهما العداوة للآخر. وهي تكون عداوة مؤججة وملتهبة إن لم يتدخل طرف ثالث ليحسم بالحق بين الاثنين، فيخزي الذي على الباطل ويأخذ الحق منه ويعطيه لصاحبه، وهنا يحس صاحب الحق أن هناك من ينصره. وبهذا تحسم العداوة وتنقضي. لكن إن لم يجد الطرفان رادَّا ولا رادعاً، تظل العداوة متوهجة. ولذلك حينما عرض الحق أمر موسى عليه السلام وأمر فرعون، قال عن موسى: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ} [القصص: 8].والتقطوا موسى لماذا؟ {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8].فهل عرفوا هم من البداية أنه عدو؟ لا، لقد التقطوه ليكون قرة عين لهم، ولكن الله أفسد مرادهم. فاللام في قوله: (ليكون) هي لام الغاية والعاقبة وليست لام العلة الفاعلة، وقد أثبت سبحانه بذلك أن فرعون ليس إلهاً، وأن أتباعه كانوا قوماً مغفلين لا فطنة لهم. فلو كان فرعون إلهاً لعرف أن هذا الوليد الذي سيربيه سيكون عدواً له.والعداوة هنا هل هي من ناحية موسى فقط تجاه فرعون؟ لا. إنها عداوة بين الله وموسى كطرف، وفرعون كطرف. لذلك قال: {فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ} [طه: 39].ولم تنته هذه العداوة إلا بغرق فرعون. والحق ينبهنا: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر} و(في) هنا هي للسببية كقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت».ونقول في حياتنا اليومية: أُخذ فلان إلى الحبس لمدة أعوام في قطعة مخدرات. أي أنه أوقع نفسه في المكروه بسبب شيء ما. وقوله الحق: {فِي الخمر والميسر} دلت على أن العداوة والبغضاء مظروفة في الخمر والميسر. ويقول بعد ذلك: {وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ}.إن ذكر أي أمر يعني أن يكون هذا الأمر في بؤرة الشعور دائماً، فكل معلومة يذكرها الإنسان تكون في بؤرة شعوره، ومن بعد ذلك تتحرك لتحل محلها معلومة أخرى. وعندما يكون بال الإنسان مشغولاً بشيء فهذا الشيء لا يتزحزح من بؤرة الشعور إلى حاشية الشعور إلا بعد أن يأتي أمر آخر يشغل البال.ولذلك نقول: إياكم أن تعتقدوا أن الذهن يفهم أي أمر من مرة واحدة أو من مرتين أو من ثلاث مرات. لا، بل يفهم الذهن من مرة واحدة كآلة التصوير، والمهم أن يكون ساعة التقاط المعلومة خالياً من غيرها؛ ولذلك كنا نعرف أن إخواننا المكفوفين الدارسين معنا أقدر على الاستيعاب الحفظي منا نحن المبصرين؛ لأن المبصر عندما يكون بصدد مسألة قد تنشغل عيناه بشيء، فتكون بؤرة شعوره مشتتة. أما الأعمى فبؤرة شعوره تذكر فقط ما يسمعه.وهكذا نعرف ما هو (الذكر). والخمر تطمس العقل وتستره فكيف يذكر الله إذن؟ وكذلك الصلاة، وهي الذكر، تسترها الخمر عنا. وكذلك الميسر الذي يلوح فيه الوهم بالكسب كالسراب، فيلهث اللاعب خلف اللعب لعله يكسب، ويفقد القدرة على ذكر الله والصلاة.ولأن العداوة مسبقة بين الإنسان والشيطان، نجد الشيطان قد قال فيما يحكيه الحق عنه: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82].قد عرف الشيطان كيف يقسم؟ أقسم بعزة الله أن يغوي خلقه، فلو أن الله أراد عباده لما أخذهم الشيطان. ويذيل الحق أمر الخمر والميسر بقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ}. هذا استفهام، وهو طلب فهم الشيء، هذا ما نعرفه عندما يكون الاستفهام من البشر، ولكن عندما يصدر هذا الاستفهام من الله لنا، فهذا أمر الأمر سبحانه وتعالى. كيف؟ إن هناك أمراً من الآمر هو حكم لازم. وهناك أمر يريده الله من المأمور ليأمر به نفسه.وهي ثقة من الآمر الأعلى في الإنسان المؤمن الذي يتلقى مثل هذا الأمر. ومثال ذلك- والله المثل الأعلى- يقول الأب لأحد أبنائه: إن إهمالك لدروسك سيجعلك تنال غضبي واحتقار زملائك لك وتتأخر عن غيرك، فهل ستنتهي من اللعب واللهو أو لا؟ ولم يقل: انته عن اللعب؛ لأن الأب أراد أن يأتي بالحيثيات حتى يحكم الابن بنفسه، وحتى يدير المسألة بمقابلها، ولا يجد إلا أن يقول: لقد انتهيت عن اللعب.وهنا جاءت المسألة أيضا على هذا الشكل، فبدلاً من أن تكون حكماً من الله أصبحت حكماً من العبد المأمور. وهذا أبلغ أنواع الحكم؛ لأن المتكلم يلقي بالأمر في صيغة سؤال، ليدير المسئول كل جواب فلا يجد إلا الجواب الذي يريده السائل. ومثال ذلك عندما فتر الوحي عن حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وقال أهل قريش: إن رب محمد قد قلاه وأبغضه وكرهه، ثم نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} [الضحى: 3].ويتابع الوحي: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى} [الضحى: 6].وعندما يستقرئ النبي صلى الله عليه وسلم هذه المسألة يجيب: نعم يا رب أنت وجدتني يتيماً فآويتني. وهذا يسمونه مشاركة المأمور في علة الأمر. وهذه أبلغ أنواع الأمر.وعندما يقول الحق: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} يعلم المخاطبون ماذا يريده الله، فيقولون: نعم انتهينا يا ربنا. وبالغوا كثيراً في هذا الانتهاء، فالإمام عليّ- كرم الله وجهه- يقول: لو وقعت قطرة منها في بحر ثم جف البحر، ونبت فيه الكلأ واندلع لساني من الجوع ما قربته. ولم يكن هذا أمراً مفروضاً، ولكنها المبالغة في الانتهاء على أقصى صورة.وها هوذا سيدنا عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- يقول: لو وقعت قطرة منها على يدي لحرمتها على نفسي. وهكذا كان رد فعل قول الحق: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ}. وبذلك تم حسم مسألة الخمر. ونعرف أن التكليف في تحريم الخمر جاء متدرجاً، والتكاليف الإيمانية إنما تأتى على لسان رسول، والرسول لا يأتي إلا إذا عم الفساد في المجتمع، وفي ذوات البشر في آن واحد. فلا نجد من يلوم نفسه، أو يتدخل ليرد آخر عن فساده؛ هنا تتدخل السماء بإرسال رسول، ولا تصب السماء كل أحكامها في أول الأمر، ولكنها تدعو خلال الرسول بالإيمان بالله الواحد حتى يتلقوا منه الحكم. فالأيمان بوحدانية الله هو قمة العقيدة التي لا هوادة فيها.لكن في الأمور التي تتعلق بالأحكام، فالأحكام تُغيِّر أوضاعاً عرفية وأوضاعاً اجتماعية متداولة بين الناس. فإذا أراد الله أن يغير عادة بحكم فهو يأتي بهذه المسألة تدريجا؛ لأنه سبحانه وتعالى يتلطف مع خلقه برحمته.ومثال ذلك: كان الرجل يملك المال فلا يعطي أباه ولا أمه، إنما يعطي المال لأولاده؛ لأنه يعرف أن والده منته وسيموت قريبا، وأن الابن هو الذي يستقبل الحياة، ولذلك فالابن يأخذ كُلَّ المال. هنا قال الحق: لا، إنك أنت يا صاحب المال قد تموت قبل أبيك فاترك له شيئاً. {إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية لِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة: 180].لقد أراد أن يخرجهم من عدم العطاء إلى الوصية التي تكون منهم. وبعد أن استقرت الأحكام، قرر الحق للوالدين نصيباً من الميراث. إذن جاء الأمر أولاً بتلطف في الخروج عن حكم الإلف والعادة والعرف؛ حتى لا يخرجهم إخراجاً قسرياً. والحق سبحانه وتعالى لا يريد أن يجعل المال دُولة بين الأغنياء فحسب أي يتداولوه دون غيرهم، بل يريد أن يجعل المال دولة بين الناس. لذلك جاء الميراث.إننا عندما نحسب ميراث ألف فدان مثلا نجده قد ذاب وتقلص وتناثر خلال ثلاثة أجيال إلى فدانين وخمسة أفدنة. وهذا تدرج أجيالي لا قسري. حتى يرتب الإنسان حياته وحياة أبنائه، فيترك المالك لأولاده ميراثاً وخيراً ليديروا العمل فيه. أما الذي لا يملك فهو يعطي لأبنائه حرفة أو وظيفة. لذلك يذيب الدِّيُن المسألةَ المالية والعقارية أو الإقطاع كما يقولون، لا بالقسر حتى لا تحدث للمجتمع هزة حقد أو هزة توتر؛ لأن الذي جمع ماله من عرقه ومن اجتهاده ساعة يرى المال قد خرج منه إلى من لم يعرق ومن لم يجد، فهو يحقد، والحق يقول: {وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد: 36-37].وساعة يحدث الضغن في المجتمع فإن كل استقرار وود ينتهي. وهذا هو منتهى التلطف في رعاية العادات. وكانت الخمر ومجالسها عادة موجودة عند العرب، وكان من الصعب أن يخرجهم منها مرة واحدة. لذلك جاء تحريمها بتدرج وبتلطف والذكي والفطن عندما يسمع الآية التالية يعرف أن الله قد بيت للخمر تبييتاً محكما للقضاء عليها وذلك بتحريمها، يقول الله تعالى: {وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} [النحل: 67].فسبحانه يقول: (ورزقاً حسناً)، ولم يصف السكر بأنه حسن. ومعنى هذا أن أخذ الرزق وتخميره واتخاذه سكراً هو إتلاف للحسن. وجاء الحق ب(السكر) أولاً ليخبرنا أنهم كانوا يأخذون منه الرزق أولاً النصيب الذي يجعلونه خمراً. ومن بعد ذلك يطرح الحق الأمر كعظة من الواعظ للموعوظ، والعظة ليست إلزاماً، إنما هي إبداء رأي حكيم لغيره، وهذا أول التبيت للدخول إلى تحريمها، ثم يقول الحق: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة: 219].وهكذا رجح الحق جانب الإثم على جانب المنفعة. ومن بعد ذلك يأتي للصلاة، ولم يكن هناك حكم جازم بعدم شرب الخمر قبل الصلاة إلى أن قام واحد للصلاة وهو سكران، ونعوذ بالله مما قال، قال: قل أيها الكافرون أعبد ما تعبدون. لقد اضطرته الخمر أن يخطيء في القمة العقدية، لذلك جاء الأمر: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} [النساء: 43].ونعلم أن المسلم يصلي خمسة فروض في اليوم، وحتى لا يقرب الإنسان الصلاة وهو سكران فهذا يقتضي أن يمر النهار كله تقريبا دون خمر إلى ما بعد العشاء.وبذلك أطال الحق المسافة الزمنية التي يمتنع فيها عن تعاطي الخمر. وفي ذلك حبس للنفس عن المعتاد عليه حتى يألف الشخص المعتادُ تركَ ما اعتادَهُ. ومن بعد ذلك يطلبون من الرسول رأياً شافياً في الخمر فيأتي قوله الحق: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91].لقد كان هذا هو التدرج الذي يخرجهم من الإلف والعادة في أعمالهم، فيأتي الأمر بالتحريم وكأنه صادر منهم. ويردف الحق سبحانه وتعالى ذلك الحكم الجزئي في الخمر والميسر فكأنه يقول: ما دامت المسألة كما علمتم مني بأن هذا رجس ومن عمل الشيطان فلا تعينوا الشيطان على نفوسكم وأخلصوا في عبادة الحق وحده، ويقول سبحانه- بعد ذلك: {وَأَطِيعُواْ الله...}.
|